lundi 17 mai 2010

مع العجوز

(إلى روح هذا العجوز الشاب الذي كانت مشاعره الإنسانية أعمق من وجعي)

لم أكن لأعرفه لولا شطحات الصدف المجنونة
عجوز في السبعين
زنده يتدلى بين كمّ قميصه و بقايا عضلات ذراعه على إيقاع رعشته المرضية و مشيته العرجاء الخلقية
حقيبة من الجلد البني المتهرئ بيده اليمنى بدت و كأنها أقفلت غصبا و توشك على الانفجار
اقترب من طاولتنا يتفحّص فينا من وراء نظارته المتينة و كأنّه إزاء كتب معروضة كتبت عناوينها بخط رفيع فدعتك للاقتراب أكثر لاكتشافها
انتفض أحد الندماء من مكانه فخلنا مسّا من الجنّ أصابه
و سارع باستقبال العجوز و الترحيب به بأسلوب أرقى من النفاق الاجتماعي بكثير
قدّمه للحاضرين ممّن لم تبعث بهم الكحول إلى عوالم الحضور الشرفي بعد, و كنت منهم حينها
"السيد (م.ب) دكتور في الأدب و الحضارة العربية و روائي سوري"
حالما تعرفت عليه و تذكرت ما قرأت له من أعمال
و سرعان ما ادعيت الجهل و حاولت الابتسام للترحيب
فخانني فكّي السفلي و اكتفيت بمصافحة يده المرتعشة اللينة
...
كنت كجارية الملوك العباسيين بين العجوز و الرجال الجالسين معنا على الطاولة
أبتسم إلى هذا, أنثني على ذاك, و أداعب الآخر
لعبة, بل قل, مهنة, صرت أحذقها.
...
لم أتخيّل يوما أنّي سأتقاسم فراشا واحدا مع رجل طاعن في السنّ
رجل على قدر من الاحترام و الثقافة و الشهرة أيضا.
لم أفكر كثيرا عندما أشار إليّ تصريحا لا تلميحا بمرافقته لغرفة النزل
ربما أردت أن أجرّب كل الرجال من بعدك
لن أتقاسم معك أيام الشيخوخة و العجز الجنسي
ربما أردت أن أقوم باستشراف صورة جهازك التناسلي بعد عقدين من الزمان

...
دخلت إلى الحمام لأستحمّ و تركته يرتب أغراضه بالغرفة
كتب و مراجع و أوراق مبعثرة تقيّأتها محفظته
نظرت إلى جسدي و توقعت استيائه من التواصل مع رجل في السبعين
فلم يدلي لي بأي إعراض
قلت لك أنني لم أعد أخاطب إلا جسدي
ذكّرته برجالي فلم يقم بأية مقارنة
و كأنه يقول لي "أنا الذي انتقلت من الحبيب الأول إلى العشرات بعده لن يضجرني شكلهم و لا سنّهم و لا أيّ شئ بعد فراق الأحبة"
فسخرت منه و داعبته المياه الساخنة لتهدئ من روعه أمام استهزائي به
غطيت القليل منه بمنشفة و خرجت
نظر اليّ العجوز نظرة لم أفهم فحواها ... اعجاب و استهجان ... سرور و ضرب من الحزن
لم أعد كما تعرفني كثيرة الاسئلة فضولية كما عهدتني
مع رجالي أقلّل من الحديث و أكثر من الايحاء
و لكن نظرته تلك استفزتني و دعتني إلى التوجه له بالسؤال عن معناها
فأشار اليّ بالجلوس و قابلني على كرسيّه و أشعل سيجارة أجنبية بيد أنه أحضرها من بلاده
"أنت لست مومسا و لن تكوني يوما كذلك"
اكتفيت بالاصغاء و التحكم في ملامحي بحيث لا أبدي استغرابا و لا استنكارا
"تجربتي مع النساء طويلة ما لها ساحل...نساء من كلّ أصقاع العالم, عرفت من العاهرات ما يجعلني أوقن أنّك لست منهنّ...نظرتك ثاقبة و أساليب إغرائك مصطنعة... لست مومسا بل تلعبين دور المومس"
أشعلت سيجارة و حاولت جاهدة إبداء عدم اهتمامي بما يقول و اقتربت منه محاولة إقناعه أنّ ما يقوله ناجم بلا شك عن مفعول الكحول في قريحة متفلسفة بالأساس فأمسك بيدي و واصل الكلام بكلّ اتزان
"لا أطلب منك مجاهرتي بحقيقتك فليس من حقي ذلك و إنما أودّ فقط لو تستحضري عقلك بدل جسدك... و أوقن أنه من شأنك استحضارهما معا لو أردت... بإمكاني أن أساعدك كثيرا"
تجاهلته و تغابيت مدعية أنه فعلا بإمكانه أن يساعدني بالصمت و الرضوخ لجسدي, و شئ من الفضول الفطري يصارع أوامر إرادتي التي تنصّ على الكتمان و مقاطعة كل سبل النقاشات و التساؤلات و التحليلات
"اسمعي أنت لست عاهرة تبيع جسدها للعابرين, أرى ذلك في عينيك و حديثك و إن كانت فرصه قليلة بل قولي نادرة, وقد سبق و تقابلنا منذ سنوات قليلة في إحدى الأمسيات الشعرية,لا يمكن أن أنسى خيالك و قد قلت حينها ما أردت قوله أثناء النقاش الذي تلى الإلقاء, قلت حرفيا ما كنت عازما على قوله, لا تنكري, لم أنس صورتك, مومس من هواة الشعر؟؟ كتير حلو والله"
لم أجد سبيلا للإنكار وقد خانتني ملامحي التي ارتبكت فجأة, كيف لا و قد تذكرت ذلك القصيد الذي كتبته أنا لتشارك به أنت في المسابقة الشعرية و تفوز بالجائزة الثانية و تنسى شكري, ولو كذبا.
تركت يده و استلقيت على ظهري واضعة أسفل رجليّ على الفراش
صمتت لدقائق و لم يسمع سوى صوت احتراق السجائر, أرسل صوتا كفحيح الأفاعي
استحضرت شريط حياتي دون مونتاج أو مؤثرات فنية
لم أنظر اليه
ركّزت نظري على ركبتيّ فبديت كعزيز قوم ذلّ, أو كثكلى أصابها البكم بعد اللوعة, أو ربما كمجنون شرب مسكّنا فارتخت أعصابه
و أطلقت العنان لذاكرتي و واستدرجت لساني لنطق الأحرف
وسرعان ما فقدت التحكم فيهما
لم يقاطعني و لم أصمت و لم أزح بصري عن ركبتيّ
طلع ضوء النهار فسكتت عن الكلام الذي صار هذه الليلة مباحا
اتكأ العجوز إلى جانبي و كان أذكى مني في التحكم في ملامحه
احتضنني محاولا قدر الامكان تجنب ابداء الشفقة أو التعاطف
و نمت بحضنه دون أي تعقيب على كلامي أو تعليق يذكر
نمت كرضيعة حمّموها و أطعموها و حان وقت نومها فنامت دون مناوشات

Aucun commentaire: